نصف عام على الحرب: خمسة دروس من «الطوفان» و«العدوان»

الأحد 07 نيسان 2024
أنقاض المنطقة المدمرة في محيط مستشفى الشفاء. أ ف ب.

أي كلام يمكن أن يقال والحرب الإبادية الصهيونية مستمرة في غزة؟ هل الكلام ممكن، وهل هو لائق، ومن باب أولى، هل هو ضروري في مواجهة أهوال الإبادة الجماعية؟ إن صنع استعارات عن الإبادة الجارية لمحاولة وصفها يعني عمليًا خيانة الحقيقة، وترميز ما لا يمكن ترميزه. لكن الصمت في هذا المقام يبدو أكثر قسوةً على نفس الصامت والضحية. نحن إزاء مفارقة يسميها فرج بيرقدار «خيانات اللغة والصمت، في زمن ما، كان يحدث هذا الحيف الذي تخونني اللغة فيه. أما الصمت فربما كان وما زال أكثر حيفًا وخيانةً». ولأننا لم نتكلم بشكل كافٍ في السياسة على مدى سبعة عقود من نكبة فلسطين، رغم كثرة الضجيج والثرثرة، فقد وصلنا إلى هذا الدرك من الخذلان. لذلك يبدو الكلام على ما فيه من قصور التعبير أهون من الصمت. 

يبدو هذا الاستهلال ضروريًا لتشريع الكلام في دروس نصف عامٍ من العدوان على غزة ونصف عامٍ من الصمود الأسطوري للمقاومة المسلحة وشعبها، ونصف عامٍ من التواطؤ الغربي والانكفاء العربي، رسميًا وشعبيًا.

يعلو هدير المخاوف اليوم على هدير الطائرات. يرقب الجميع العدوان المستمر في قطاع غزة من زاوية الكارثة الإنسانية، وهي زاوية تستحق الكثير، ولكنها ليست كل الصورة. في قلب الكارثة وعلى هامش الصورة ملحمة حقيقية عنوانها الأساسي صمود المقاومة. وتوظيف مصطلح الملحمة في هذا السياق لا ينطوي على أي مجازٍ. ما يحدث منذ ستة أشهر لم يحدث قبل ذلك -لا في تاريخ الصراع فحسب- بل في تاريخ البشرية الحديث والمعاصر. لذلك فإن النظر إلى الكارثة دون إعطاء المقاومة حقها يبدو إجحافًا. ونتيجته ستكون تفويتًا تاريخيًا في دماء الشهداء، ومنح العدو نصرًا لا يستحقه. وربما يكون العدو نفسه يريد ذلك من خلال بناء صورة نصر مزيف، مدارها قتل المدنيين وتدمير البنية التحتية ومحو شروط الحياة في القطاع.

الغزيون -شعبًا ومقاومة- يخوضون اليوم حربًا دون أن يحبوها، ومع ذلك يخضونها بصمود وصبرٍ لأنها حرب فرضت عليهم، ليس في السابع من أكتوبر، ولكن قبل ذلك بعقود. لذلك فهم لا يريدون الموت، كما تشيع الدعاية الصهيونية والغربية الاستشراقية، فموتهم ليس ضروريًا لتتحرر فلسطين إلا بالقدر الذي يكون فيه الاحتلال شرسًا. فالشوارع التي تنهض بعد كل مجرزةٍ تبحث عن الخبز، تكشف عن إرادة غزيّة فذةٍ للبقاء على قيد الحياة. أما اليوم، وبعد نصف عامٍ، تبدو لوحة الصراع أكثر جلاءً من عشية السابع من أكتوبر، كاشفةً عن دروسٍ خمسةٍ، ربما يكون تفصيلها ضروريًا لفهم أعمق للحرب.

في شأن النصر والهزيمة

يتعلق الدرس الأول بضبابية مفهوم النصر والهزيمة في هذه الحرب، والذي يجعل قطاعًا واسعًا من العرب يسقطون في فخّ التسليم بالهزيمة، وربما الهجوم على المقاومة، بدل نقد المتسبب الأول في الإبادة الجماعية. ذلك أن مقاربة الحرب من الزاوية الإنسانية تحجب على نحو كبير التحول الجذري الذي حصل في هجوم طوفان الأقصى. 

يتقدم الجيش الإسرائيلي على الأرض في غزة، ولكنه مع ذلك يخسر الحرب. والسؤال هنا لا علاقة له بالاعتبارات العسكرية: فتفوق «إسرائيل» في هذه النقطة واضح ويصعب إنكاره من خلال موازين قوى تسليحية وتقنية مختلة. ومع ذلك، فإن مفهوم النصر في الحرب الحالية لا يمكن تحليله ببساطة في إحداثيات الصراع بين طرفين متحاربين. فانتصار «إسرائيل» أو عدمه يجب أن يُنظر إليه في ضوء الأهداف التي حددتها «إسرائيل» لنفسها، أي القضاء على حماس، وتحقيق نكبة جديدة في فلسطين، من خلال عملية طرد جماعي، مخططة ومنسقة. وأخيرًا تحرير الأسرى. 

يتقدم الجيش الإسرائيلي على الأرض في غزة، ولكنه مع ذلك يخسر الحرب. فانتصار «إسرائيل» أو عدمه يجب أن يُنظر إليه في ضوء الأهداف التي حددتها «إسرائيل» لنفسها، أي القضاء على حماس، وتحقيق نكبة جديدة في فلسطين، وتحرير الأسرى. 

اليوم وبعد نصف عامٍ، تبدو هذه الأهداف أبعد من أي وقت مضى، حيث ما زالت المقاومة الفلسطينية، تحتفظ ببنية تحتية عسكرية مرنة وقادرة على ضرب العدو، فيما تعجز «إسرائيل» عن الوصول إلى قيادة المقاومة لتحقيق صورة نصر رمزية. وعاجزةً في الوقت نفسه عن تحرير أسراها أحياء. فيما فشلت خطتها في تهجير سكان القطاع قسريًا، رغم قسوة المجازر التي ارتكبتها، وتدميرها للبنية التحتية للقطاع. ويبدو أن العجز الإسرائيلي، يتفاقم مع مرور الزمن، لأنه يضع كل فائض وحشيته على الأرض دون أن يجني منه سوى مزيد من الإحراج لحلفائه الغربيين. تعاني «إسرائيل» اليوم من متلازمة «الحرب التي لا يمكن كسبها». هذا النصر الإسرائيلي المستحيل كان مستحيلًا بالنسبة للفلسطينيين قبل السابع من أكتوبر. والمستحيل صار ممكنًا. فبالقدر الذي يبدو فيه النصر الإسرائيلي مستحيلًا فإن المقاومة حققت ذلك المستحيل وتجاوزته. 

في حرب تموز 2006 عاشت «إسرائيل» الوضع نفسه مع فارق السياق. فقد أدركت بعد حوالي شهر من القتال أن الانتصار مستحيل كما حددته سلفًا بالقضاء على المقاومة نهائيًا. لكن ما يجري اليوم يبدو أكثر عمقًا بوصفه يجري على أرض فلسطين، مطوقًا الاحتلال بأزمة مركبة ومتعددة الأبعاد. في الوقت نفسه تحاول حكومة الحرب الإستفادة من هامش التسامح الزمني الغربي لتنفيذ المزيد من القتل والتخريب، في محاولة لتحقيق نصر يبتعد يومًا فآخر. 

لكن خلف هذه الغطرسة، توجد متلازمة أخرى تهمين على البنية النفسية الإسرائيلية، على الأقل منذ حرب 1967، وهي متلازمة البطل الخارق التي تعزز شعورًا وهميًا بأن «إسرائيل» كبطل الأفلام الهوليودية الذي لا يموت أبدًا. ربما يقفز من عمارة عالية نحو الأرض، أو يُضرب بالرصاص، أو يغرق في قاع المحيط، لكنه لا يموت. ومع أن هوليوود نفسها كفت منذ سنوات عن مثل هذه الحماقات الدعائية، فإن «إسرائيل» ما زالت نظرتها تجاه خصومها العرب متجمدةً في اليوم التالي لنكسة حزيران. هذه البطولة المتخيلة تصوغ الإيدولوجية الإسرائيلية على نحو ذهاني منفصل عن الواقع الذي جرت تحت جسوره مياه كثيرة منذ النكسة.

أركان «حرب التحرير»: فداحة الثمن والوكيل المحلي

أما الدرس الثاني فيتعلق بضرورة إدراك أننا أمام حالة نموذجية من حرب التحرير الوطنية، وأسلوبها الفريد «حرب الشعب الثورية». وتحديدًا في مرحلتها الثانية -كما تفترضها الأدبيات الماوية- والتي تتميز بالاشتباك المباشر مع العدو من خلال تكتيك العصابات، والتي سبقتها مرحلة أولى يحصل فيها الفدائيون على دعم السكان وينشرون فيها دعايتهم ويعبؤون خلالها قدراتهم القتالية والتقنية. وهذه المرحلة شرعت فيها المقاومة منذ سنوات. 

تبدو هذه الصورة بديهية لأي مراقب، ولكن إدراك أننا في حرب تحرير وطنية، يفتح نافدةً للوعي بوجود مكونات أساسية في مثل هذا النوع من الحروب إلى جانب المقاومة. أولًا فداحة الثمن الذي تدفعه الشعوب التي تسلك مسار التحرر الوطني ضد الكيانات الاستعمارية. حيث تكشف التجربة التاريخية عن ذلك في الكثير من الساحات. 

خلال الحرب التحرير الصينية ضد الجيش الإمبراطوري الياباني، خسر الصينيون ما بين سبعة ملايين إلى 16 مليون مدني وثلاثة ملايين ضحية عسكرية. وفي الجزائر، قدم الشعب الجزائري، خلال ثماني سنوات من الثورة المسلحة، حوالي 3% من سكان البلاد بين مدني ومقاتل، في مواجهة الإستعمار الفرنسي. وفي فيتنام، تشير أقل تقديرات الضحايا إلى سقوط حوالي 1.5 مليون قتيل خلال حرب التحرير الوطني ضد الاحتلال الأمريكي، وقبل ذلك حوالي نصف مليون فيتنامي في مواجهة الاستعمار الفرنسي. لكن في عام 1968، قاد الثوار الفيتناميون هجوم تيت بأسلحة خفيفة وأرسلوا للأميركيين رسالةً واضحةً بأن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم من أجلها لا يمكن كسبها. ورغم أن عواقب هذا الهجوم كانت رد فعل أمريكي هو الأشد قسوةً في تاريخ الحرب، قتل خلاله الآلاف من المدنيين وخسر خلاله الثوار الكثير من البنية التحتية العسكرية السرية التي بنوها بصبر على مر السنين، إلا أنه شكل لحظة أساسية في هزيمة الأمريكان. 

لا ترى حركة التحرر الوطني النصر في وقت قصير، بل من خلال الانخراط في أعوام من النضال الذي يزيد من التضامن العالمي مع الضحية ويعمق من عزلة الاحتلال، ويزرع المزيد من التناقضات داخل معسكر المحتل، فيستنزفه من الداخل.

لذلك فإن مفهوم حركة التحرر الوطني للنصر العسكري يدور دائمًا حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد. فأي حركة تحرر وطني لا ترى النصر في وقت قصير، بل من خلال الانخراط في أعوام من النضال الذي يزيد من التضامن العالمي مع الضحية ويعمق من عزلة الاحتلال، ويزرع المزيد من التناقضات داخل معسكر المحتل، فيستنزفه من الداخل. فضلًا عن ذلك فإن ما تخوضه المقاومة في غزة اليوم ليس مجرد حرب عصابات، بل إنها نجحت في تطوير أسلوب «حرب العصابات التكنولوجية» (techno-guérilla)، التي هي مزيج وثيق بين أسلوب عمل العصابات والتقنيات التي كان يُنظر إليها سابقًا على أنها من اختصاص الدول. ولد المفهوم لأول مرة من خلال عمل الاستراتيجي الفرنسي غي بروسوليه (Essai sur la Non-bataille باريس، 1975). و الفرق بين «حرب العصابات» و«حرب العصابات التكنولوجية»، يكمن في المهارات العسكرية المتنوعة. فلم يعد الأمر يتعلق فقط بالغارات والكمائن والتخريب والدعاية، بل أصبح يتعلق أيضًا بالقتال المشترك، والهجمات المعقدة، وحتى تطوير الاستراتيجيات البحرية والجوية.

أما المكون الثاني والأساسي، في هذا النوع من الحروب، فهو وجود الوكيل المحلي، وهو كيان سياسي محلي يحاول استغلال السياق لخدمة الإحتلال، على نحو مباشر -كما في نماذج الكيانات العملية تاريخيًا- أو على نحو غير مباشر من خلال استغلال ظرفية حرب التحرير لكسب موقع سياسي عبر تقديم نفسه بديلًا لحركة التحرير، ولا سيما أقل جذريةً منها. في الحالة الفلسطينية الراهنة يبدو سلوك السلطة الفلسطنية، والتي أصبح ينظر إليها محليًا على أنها ملحق ضعيف للسلطة العسكرية الإسرائيلية، قريبًا من نموذج الوكيل المحلي في تجارب التحرر الوطني التاريخية. وقد عمّق صمود المقاومة -بوصفها نقيضًا للسلطة- هذه النظرة وهذا الدور. إن الوعي بالتشكيل الثلاثي لحرب التحرير التي تخوضها المقاومة الفلسطينية اليوم، يبدو ضروريًا لإدراك شكل النصر والهزيمة. وإدراك أن أحد أهداف الكيان الصهيوني هو محو آثار جرحه الغائر في السابع من أكتوبر، وإعادة تشكيل صورته كبطل غير قابل للهزيمة لدى شعبه، وكذلك في نفوسنا، وبذلك يحافظ على وهم التفوق وحتمية الهزيمة لدى خصومه.

في حدود الدعم الإمبريالي

يتعلق الدرس الثالث، بحدود الدعم الإمبريالي -الأمريكي والأوروبي- للكيان الإسرائيلي منذ بداية العدوان. فقد أصبح الدعم الغربي الذي سمح لـ«إسرائيل» بالعيش على مدى عقود من خلال المال والسلاح والشرعية الدولية، موضوع خلاف متزايد. رغم أن هذا الدعم لم يتوقف على المستوى الرسمي -على الأقل من الدول الأكثر شأنًا ولا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا- إلا أن استمراره وسط الإبادة المستمرة بالتوازي يبدو محرجًا لهذه الحكومات أمام شعوبها، التي أصبحت أكثر من أي وقت مضى تنظر بعين ناقدة لـ«إسرائيل». وكذلك أمام بقية العالم، في ظل صعود تيار قوي من الجنوب العالمي مندد بالإبادة ويقود خطوات قانونية وشعبية لفضح النهج الإبادي الصهيوني ومحاولة معاقبة الكيان الإسرائيلي. 

لقد لعب صمود المقاومة لأكثر من ستة شهور في مواجهة الجيش الإسرائيلي، دورًا أساسيًا في كشف الحدود التي يمكن أن يصلها الدعم الغربي للكيان الإسرائيلي. حيث وصل هذا الدعم إلى درجة تجميل الإبادة وخيانة كل المبادئ التي كان العالم الغربي يستعملها أسلحةً لفرض هيمنته على العالم. وفي الوقت نفسه كشف عن محدودية الهيمنة الغربية على العالم سياسيًا وفكريًا، من خلال فسح المجال لبروز صوت عالمي مضاد للإبادة، وأكثر وعيًا بالقضية الفلسطينية، بوصفها مسألة استعمارية تستعمل فيها أشد السياسات رجعيةً وعنصرية.

كذلك لعبت التحولات الجذرية التي يعيشها النظام الدولي منذ حرب أوكرانيا وتراجع الغرب، دورًا في وضع حدود واضحة بين معسكر الإبادة الإسرائيلي الغربي من جهة، والمعسكر المضاد للإبادة المكون من دول الجنوب. هذا التمييز الأوضح للمعسكرات سيشكل دفعًا قويًا لقضية فلسطين مستقبلًا، بعد أن أخرجها طوفان الأقصى من درج المهملات، ووضعها مرةً أخرة، بقوة ووضوح، على طاولة النقاش العالمي.

الحرب في بيت «القبيلة»

يتعلق الدرس الرابع بتبخر وهم معسكر السلام الإسرائيلي. على نحو سريع ولا واعٍ تكاتف المجتمع الصهيوني على قلب واحد، ساعاتٍ قليلةٍ بعد طوفان الأقصى. فجأةً تبخرت كل الحدود والحواجز الإيديولوجية والسياسية والطبقية والعرقية، وعادت «إسرائيل» إلى تكوينها القبلي الأصلي، طالبةً الثأر، مهما كان شكله وثمنه. على مدى نصف عامٍ من العدوان لم يتزحزح الإجماع الإسرائيلي -حكومةً وشعبًا ونخبًا- عن ضرورة مواصلة حرب الإبادة ضد قطاع غزة وسكانه. 

فقد أظهر استطلاع أجراه معهد إسرائيلي نهاية شباط الماضي، أن أكثر من ثلثي الإسرائيليين (68% منهم) يعارضون نقل المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة. وترتفع النسبة عندما يتعلق الأمر باليهود اليمينيين، حيث تصل المعارضة إلى 80%، مع الأخذ في الاعتبار أن حوالي ثلثي الناخبين الإسرائيليين يعتبرون يمينيين. فقد أصبح من الشائع في المجتمع الإسرائيلي مناقشة السن الذي يُسمح فيه بتجويع الأطفال. وفي مناقشة جرت مؤخرًا في برنامج إخباري على هيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية، توصل مسؤول سابق في الموساد يدعى رامي إيغرا، والمضيف أيالا حسون، إلى إجماع على أنه من «المشروع تجويع الأطفال الذين تزيد أعمارهم عن أربع سنوات». 

فجأةً تبخرت كل الحدود والحواجز الإيديولوجية والسياسية والطبقية والعرقية، وعادت «إسرائيل» إلى تكوينها القبلي الأصلي، طالبةً الثأر، مهما كان شكله وثمنه.

في مقابل هذا الهاوية الأخلاقية العميقة التي يغرق فيها القطاع الأكبر من مجتمع العدو، يعارض قطاع آخر الحرب، ليس من منطلق مضاد للحرب والاحتلال، بل لأسباب تتعلق بالخوف على حياة أسراهم لدى المقاومة، أو لأسباب تتعلق بالنزيف الاقتصادي الذي يدفعه العدو ثمنًا للحربّ. وطالما يفكر الإسرائيليون بشكل مجرد عن الواقع، وطالما أنهم يجدون في روح القبيلة الثأرية دافعًا للحرب ، فلن يفهموا أبدًا أولئك الذين يقاتلون ضدهم، أو كيف ينظرون إليهم. وتاليًا سيفشلون، في المدى القريب أو البعيد، في كسب المعركة النهائية.

لكن الإجماع الإسرائيلي -الشعبي والرسمي- على ضرورة مواصلة إبادة الشعب الفلسطيني، يقابله انقسام حاد حول حكومة بنيامين نتنياهو وحول شخصه. ولا سيما بوصفه عنصر التوازن الأخير بين معسكر الدولة من جهة، ومعسكر اليمين المتطرف. والدرس الذي تعلمنا إياه الشهور الماضية من الحرب، وخاصة صمود والمقاومة وعجز حكومة الحرب عن تحقيق أهدافها الاسراتيجية، هو أنه بقدر ما تصمد المقاومة في جهة، تتزايد التناقضات في معسكر العدو في الجهة المقابلة. وهي تناقضات تمتد من مجرد خلافات تقنية حول سير العمليات إلى مسائل أساسية حول التفاوض وقضية الأسرى وحول قانون الخدمة العسكرية، ومسائل أكثر جوهرية، تتعلق بمصير الحكومة الحالية وإمكانية سقوطها. فيما يبدو أنها ستكون تناقضات متراكمة ويمكن أن تؤدي إلى سيناريو الحرب الأهلية، في ظل نزوع اليمين الديني إلى تسليح أوسع للمستوطنين، ما يطرح أمام أي قادم جديد إلى السلطة مستقبلًا معضلة أمنية وأخرى سياسية مدارها طبيعة الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية.

«مرض» الدولة الانعزالية 

أما الدرس الخامس والأخير، فيتعلق بالوضع في المعسكر العربي، لو فرضنا جدلًا وجود معسكر عربي. إن جوهر هذا الدرس هو أننا ندفع اليوم ثمن تقسيم الوطن العربي باهظًا من دماء أهل غزة. حيث يبدو جليًا أن داء الانعزالية وأمراض الدولة الوطنية تقف حائلًا أمام أي نُصرةٍ عربية حقيقة للشعب الفلسطيني. 

على المستوى الرسمي تقف الأنظمة العربية عاجزةً عن بلورة بعض القرارات التي أقرتها الجامعة العربية والتي تتعلق بالمساعدات والأوضاع الإنسانية، دون أن يكون لها أي دور في الصراع الحقيقي. ذلك أن هذه الأنظمة، فضلًا عن عجزها البنيوي السيادي الذي يمنعها من التدخل، هي أحد منتجات التقسيم، وهي ممثل «الدولة القُطرية» الضيقة والعاجزة. أما على المستوى الشعبي، ففضلًا عن عجز الجماهير عن كسر طوق السلطوية المفروض على حركتها فإنها أصيبت هي الأخرى بلوثات الانعزالية، على نحو متفاوت. وقد ظهر جليًا ضعف التعبئة الشعبية العربية خاصة خلال الأسابيع الأخيرة، باستثناء بعض الدول. 

في التحليل النهائي لمسار الصراع، وما تؤكده دروس الحرب على غزة منذ نصف عام، يبدو صعبًا الوصول إلى لحظة تحرير فلسطين دون المرور بلحظة كسر حتمية التقسيم. ذلك أن حدود التقسيم تحولت إلى سلاح في يد الاحتلال يحمي به نفسه وكيانه، مستفردًا بالفلسطينيين. 

أخيرًا، ونحن إزاء أول إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين، مازالت جاريةً، و«إسرائيل» تمد فوق غزة كفنًا ضخمًا أحمر بالدم. لا يبدو أمام المقاومة من سبيل أخرى إلا أن تذهب إلى آخر رصاصةٍ. حفنة من الرجال الشجعان يقاتلون عبر القبور والأزقة والحقول والأقبية بالألغام وبأعقاب البنادق، الجيش الأكثر عددًا والأفضل تسليحًا. 

وعودًا على بدْء، هل يفيد الكلام أمام ما يجري؟ يجيب الناطق الرسمي باسم حركة زاباتيستا الثورية، نائب القائد ماركوس، في نص كتبه حول فلسطين قبل عقد ونصف عن هذه الحيرة بالقول:

«هل صرخاتنا محملة كالقنابل؟ هل كلمتنا تنقذ حياة طفل فلسطيني؟ نعم نعتقد ذلك. ربما لا نوقف قنبلة، وربما لا تتحول كلماتنا إلى درع مصفح يمنع الرصاص عن صدر طفلة أو صبي فلسطيني، لكن ستنجح كلماتنا في التوحد مع آخرين من كل أنحاء العالم. ربما تكون في البداية همسًا، ثم تتحول إلى صوت وأخيرًا إلى صرخة ستُسمع في غزة».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية